مرزوق الحلبي يدعو المبدعين العرب للتحرر من عقدة الهامش
زنجبيل الكتب يستضيف المبدع مرزوق الحلبي- أجرى الحوار: أ.د. باسيليوس بواردي، قسم اللغة العربية وأدابها، جامعة بار إيلان
يعود مرزوق الحلبي إلى قرّائه بمؤلّفه الشعريّ الجديد “الطريق إلى الآخرة”، وهو نتاج مشروعه الشعريّ على مدار السنوات الخمس الأخيرة. يضم الكتاب 400 صفحة تزيّنه لوحة ذات دلالات تشتبك بعنوان المؤلّف، للفنان السوريّ أيمن الحلبيّ. تتوزع على ثمانية أبواب، تقدم نصوصًا متنوعة في الأسلوب والمضمون، تعكس تجربة شعرية جريئة ومبتكرة. مؤكدا الحلبي أن الشعر يجب أن يقود المواجهة ضد التوحش والخراب في زمن تراجع فيه دور مؤسسات المجتمع المدني. واثقا في قدرة الشعر على التعبير عن الصفاء والجمال، وعلى استخدام لغته الفريدة للدفاع عن فكرة المدينة الفاضلة. الشعر، بلاغته ورموزه، يمتلك القوة لاحتضان القيم النبيلة والمثل العليا، وللوقوف في وجه القبح والظلم. في زمن تتراجع فيه السرديات الكبرى وتنهار فيه الأسس المجتمعية، يبقى الشعر وسيلة اعتراض، قادرة على استعادة الإنسانية وإبقاء الأمل حيًا في مستقبل أكثر عدلاً وجمالاً. مؤكدا بأنه رغم التحديات التي نواجهها، من الضروري أن نبادر بتعزيز جهود ترجمة الأدب العربي إلى لغات أخرى بدلاً من انتظار مبادرات من خارج عالمنا العربي “لدينا الكثير لنقدمه للعالم من خلال أدبنا، وعلينا أن نكون نشطين في تقديم أعمالنا الأدبية إلى كافة الثقافات واللغات. هذه المهمة ليست فقط مسؤولية الأفراد بل هي أيضًا مسؤولية مؤسساتنا الثقافية والدبلوماسية. يجب أن نعمل على تطوير مشاريع ترجمة وترويج للأدب العربي، لضمان وصوله إلى جمهور أوسع وتعزيز حضوره في الساحة الأدبية العالمية”.
هل ما زلت تثق بالشعر كقوة دفاعية في زمن انهيار السرديات الكبرى؟
نعم، أثق بالشعر في هذا الزمن المشحون بالعداء لكل ما هو نبيل وجميل. على الشعر أن يكون عصيًّا على موجة الافتراضي والكلام العابر، وأن يواجه الصور الزائفة والمضامين المغشوشة. الشعر اليوم هو الشاعر المقاتل، الذي يفكك ويبني، ويُعيد للعالم طيبته ومعقوليته. في ظل انهيار المؤسسات المجتمعية، يكون على الشعر أن يحل محلها، ويؤشر على البدائل الممكنة.
هل تعتقد أن تسميتك لعملك الشعري الثاني “مؤلفًا” تمنح الشعر معاني أكبر من قدره؟
اخترت أن يكون مشروعي الشعريّ ممتدًا وضاربًا في الأرض واللغة والثقافة والفكر. أتعامل مع الشعر كورشة مفتوحة للتجريب والإنتاج، مرتبطًا بالفكرة المشرقة وفكرة “المدينة الفاضلة”. أرى في الشعر معاني مهددة بالإبادة وأقترحه لغة تقاوم من موضع مريح. الشعر يكتسب وزنه من المعاني التي يمنحه إياها الشاعر أو القارئ. أنا من الذين يوسعون دائرة معانيه أبعد من العقائد والإيديولوجيات. الشعر يولد من عملية تأليف تمزج المعرفة بالعذوبة والشعور بالفكرة المشرقة، ويكبر كجزء من قصائدي الأخرى، فعل عقلي يروم الجماليّ غايته الأخيرة.
ما الجديد في مُنجزك الثاني، المكوّن من 400 صفحة، مقارنةً بمُنجزك الأول “في مديح الوقت”؟
في هذا المُنجز، ستجد خمس سنوات إضافية من تجاربي ومُدركاتي، تشمل الفرح والخيبات والتجارب الشخصية والعالمية. لقد توسعت في الفلسفة والتاريخ والرموز، وسُجلت في العمل الجديد تجربة أعمق وثقة أكبر بالشعر. كما أن الإيقاع والموسيقى في هذا الكتاب أقوى، مع محاولة استحضار الصوفية والاستشراف. بشكل عام، هو دمج بين الشاعر والمثقف، مع استمرار التجريب واكتشاف مناطق جديدة في الشعر واللغة.
هل أنت راض عن الصورة التي يرسمها هذا المؤلّف لك، أو عن صورتك كشاعر ومثقّف؟
أكون راضيًا عن صورتي أبدًا، لأن ذلك يعني التوقف عن الشعر والكتابة. أنا في ورشة عمل مستمرة، حيث تُنتج نصوصي وصوري الشعرية. أسعى دائمًا للوصول إلى أفق أعلى وتجاوز نفسي كشاعر ومثقف. أشعر بالفرح والاكتشاف كلما وجدت فكرة جديدة أو استعارة مبتكرة. الصورة النهائية للشاعر أو المثقف تُخلق من تفاعل بينه وبين القراء والفضاء العام.
كيف ترى علاقتك بقرّائك وجمهورك في مشروعك الشعري، خاصةً في ظل مقولة “أنني أكتب لذاتي”؟
أُقدّر المقولة، فهي تعبر عن بُعد من الإبداع حيث يُبدع المرء لنفسه، ساعيًا إلى تجميل ذاته وإعلاء قيمتها. ولكن الشعر، كغيره من الفنون، يهدف أيضًا إلى الحوار مع المتلقي، وتحفيزه، ومواجهته بالأسئلة التي قد تغير علاقته بالأشياء وبنفسه. أُعنى بكيفية استقبال قرّائي لعملي، وأريد لهم أن يمرّوا بما أمرّ به من ارتباك وحيرة ودهشة خلال الكتابة. بالنسبة لي، لا تقتصر العلاقة على بيع الكتب، بل على تفاعل حقيقي مع القُرّاء، وأتطلع إلى تسليمهم مفاتيح النصوص. يسرّني أن أرى القراء، سواء كانوا قريبين أو بعيدين، يدخلون النصوص بحرية. أعتزم إقامة فعاليات مماثلة لتلك التي أُقيمت لمؤلّفي الأول، حيث أهدف إلى تثبيت الحقيقة وإرساء العدل في أرض الكتابة، وهو ما لم تنجح فيه الشرائع والعقائد، بما في ذلك تلك التي نشأت عن الحداثة.
كيف تستطيع أن تدمج قضايا كونية وإنسانية في نصوصك الشعرية؟
الشعر، بحدود أوسع من اللغة والمُعجم، يمكنه احتواء كل الهواجس والأفكار والواقع. يتيح للشاعر التجريب والتخليق، مما يجعله قادرًا على مقاربة مسائل كونية وإنسانية. السؤال هو مدى توفيقي في الحفاظ على المكون الجمالي بينما أتناول قضايا مثل الأزمات العالمية وصراعات العصر. الشاعر يجب أن يكون جزءًا من الكون بكل همومه أو أن ينزوي بعيدًا في عزلة. أنا اخترت أن أكون جزءًا من الفضاء الكوني الرحب، وأتطلع إلى المنافسة في الساحة الأدبية العالمية دون خوف.
لماذا اخترت شكل المؤلف الجامع بتنوع الأبواب، مثل “نعمة المجاز” و”محنة الآلهة”، بدلاً من نشر مجموعات منفصلة؟
أفضّل عدم تجزئة الأعمال الشعرية لأن ذلك يمكن أن يُفقدها عمقها. أحب أن أضع نصوصي في اختبار شامل، وأقوم بمراجعتها ونقدها بعناية. ليس لدي عجلة في النشر؛ أؤمن بأن الشعر يحتاج إلى وقت لينضج. اخترت أن أدمج نصوص السنوات الخمس الأخيرة في مؤلف واحد لتجنب جمعها لاحقاً بعد رحيلي. أترك للقارئ حرية اختيار الباب الذي يثير اهتمامه، وأمل أن يجدوا في نصوصي ما يدهشهم.
كيف توازن بين لغة ميسّرة ومعبرة، مليئة بالدلالات والصور، دون أن تقع في التعقيد؟
اللغة هي جوهر الشاعر، وقد قضيت أكثر من نصف قرن في تجربتها وتعلمها. تجنبت التعقيد والتزيين المفرط، وعملت على إنتاج لغة تكون حيوية ومواكبة للعصر. تعلمت من تجارب أدبية مختلفة، مثل إميل حبيبي الذي شجعني على تطوير لغة أنيقة وبسيطة. أهدف إلى أن تكون لغتي ميسّرة للقارئ، وفي ذات الوقت قادرة على أداء أعباء الشعر بكفاءة.
كيف ترى موقعك كمبدع عربي في الأدب العالمي وشعره؟
أعتبر نفسي منافسًا على قدم المساواة مع الشعراء العرب وغير العرب، وشريكًا في إنتاج أدب عالمي تُرجم إلى عدة لغات ويدرس في الجامعات. أؤمن بأن ثقافتنا ليست أقل قيمة من أي ثقافة أخرى، وأن أدبنا العربي يعادل أو يتفوق على الأدب في لغات أخرى. عبد الرحمن منيف ومحمود درويش، على سبيل المثال، يمثلان مستوى عالٍ من الأدب لا يقل عن أي عمل أدبي حصل على جوائز نوبل في الآداب. رغم التحديات، نحتاج إلى تعزيز ترجمة أدبنا إلى لغات أخرى بدل الانتظار لمبادرات من خارج عالمنا. يجب أن نساهم في الأدب العالمي ونصدره إلى كافة الثقافات، وهذه مسؤولية مؤسساتنا الثقافية.