قراءة في تأثير باختين بعد استلام المخالفة على بكسة الشمام
زنجبيل الكتب | كايد أبو الطيف
يعد ميخائيل باختين (1895-1975) واحدًا من أبرز المفكرين في القرن العشرين، ولم يقتصر تأثيره على النقد الأدبي فحسب، بل امتد ليشمل الثقافة بمفهومها الواسع. من خلال كتابه “كتابات متأخرة: الفلسفة، اللغة، الثقافة”، يقدم باختين رؤية شاملة للثقافة الإنسانية، للغة، وللأدب بوصفه حوارًا مستمرًا يتجاوز الزمن والمكان، حيث يتداخل الماضي بالحاضر في إطار تفاعلي ديناميكي.
من منظور باختين، النص الأدبي ليس مجرد بنية جامدة، بل فضاء مفتوح يمتزج فيه الزمن والمكان بطرق معقدة. مفهوم “الكرونوتوب” الذي قدمه باختين يكشف عن الكيفية التي تتداخل بها الأزمنة المختلفة في النصوص الأدبية لتشكل بنية سردية تتجاوز مفهوم الزمن الخطي البسيط. يرى باختين أن الزمن في الأدب ليس مجرد أداة لترتيب الأحداث، بل هو عنصر تعبيري يعكس تعقيد التجربة الإنسانية، حيث تعيش كل شخصية وكل حدث زمنه الخاص، مما يخلق تفاعلًا متعدد الطبقات بين العناصر المختلفة.
لتوضيح فكرته، يطرح باختين مشهدًا خياليًا على متن سفينة في عرض المحيط. يُصور باختين كيف أن الأوقات المختلفة تتداخل: زمن الغريق المضطرب، زمن الطباخ المستقر، وزمن سمكة القرش المتربصة. كل من هذه الأزمنة يعبر عن تجربة مختلفة للحياة، ولكنها تتشابك في نفس الفضاء المكاني، مما يعكس الطبيعة التعددية للوجود الإنساني.
يبرز هذا التعدد الزمني في الأدب أيضًا من خلال ما يسميه باختين “الحوار المستمر”. النصوص الأدبية ليست كيانات ثابتة أو مكتملة، فهي تحتوي على معانٍ تتجدد باستمرار من خلال القراءة. كل قراءة جديدة للنص تمثل فرصة لإحياء معانٍ كانت قد تكون منسية، أو لا تزال في انتظار التفاعل مع الظروف الثقافية والاجتماعية الجديدة. المعاني ليست محددة أو ثابتة في النص، بل هي في حالة تحول دائم، تنتظر اللحظة المناسبة لتنبعث وتكشف عن أبعاد جديدة وغير متوقعة.
النص الأدبي، وفقًا لباختين، هو جزء من حوار لا نهائي يمتد بين الماضي والمستقبل، وبين القارئ والنص. كل قراءة تمثل فرصة لإعادة تشكيل النص وتأويله بطرق مختلفة، مما يجعل القراءة ليست مجرد استهلاك، بل فعلًا إبداعيًا يسهم في إحياء النص وتوسيع دلالاته.
هذا التصور يجعل الأدب وسيلة لتحرير الفكر من القوالب الجاهزة والنهائية، إذ يؤكد على الطبيعة الديناميكية والمفتوحة للنصوص الأدبية. الأدب، بهذا الفهم، يعيد تشكيل نفسه في كل لحظة وفي كل سياق جديد، ليظل جزءًا من الحوار الإنساني المستمر الذي يسهم في تشكيل الوعي الفردي والجماعي عبر الزمن. باختين يرى أن الأدب ليس له “بداية” أو “نهاية” ثابتة، فكل نص أدبي مفتوح على قراءات لا نهائية، ومعانٍ متجددة تستمر في الحياة طالما أن هناك قراء يفسرونه ويتفاعلون معه.
وما يعنيه هو أن النصوص ليست ثابتة أو أحادية المعنى، فهي تنطوي على إمكانيات تأويلية متعددة تتجدد مع كل قراءة. المعاني التي قد تبدو منتهية في زمن معين قد تتغير مع مرور الوقت ومع تغير الظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية. هذه المعاني قد تكون كامنة في النص، لكنها تنتظر اللحظة المناسبة لتنبعث من جديد وتكشف عن أبعادها الخفية. وهكذا، يصبح النص حيًّا ومتحولًا، حيث يمكنه أن ينفتح على تأويلات جديدة لم تكن ممكنة في السابق.
من هذا المنطلق، فإن النصوص الأدبية، وفقًا لباختين، لا تعيش في عزلة عن الزمن، بل هي جزء من حوار مستمر يمتد إلى الماضي ويستشرف المستقبل. في كل قراءة، يتم استحضار معانٍ قديمة أو منسية، وتُدمج في سياقات جديدة، مما يمنحها حياة جديدة ومعانٍ متجددة. القراءة، بهذا المعنى، ليست مجرد عملية استهلاك للنص، بل هي فعل إبداعي يعيد تشكيل النص ويكشف عن احتمالات جديدة فيه.
الحوار الذي يتحدث عنه باختين هو حوار بين الذات والآخر، بين الماضي والمستقبل، وبين القارئ والنص. وهو حوار لا يعرف النهاية، لأنه بقدر ما يوجد قراء، ستظل هناك قراءات جديدة ومعانٍ تتجدد وتستمر في الحياة. النص الأدبي يصبح بذلك مرآة تعكس التحولات الإنسانية، وتساهم في تشكيل الفهم الإنساني للذات والعالم عبر الأزمنة المختلفة.
إن هذا التصور يجعل من الأدب وسيلة لتحرير الفكر من القوالب الجامدة والنهائية، ويؤكد على الطبيعة التحولية والمفتوحة للنصوص والمعاني. ففي كل لحظة، وفي كل سياق جديد، يُعيد الأدب إحياء نفسه ويقدم فرصًا جديدة للتفكير والتمعن في معانيه العميقة والغامضة. وبهذا، يظل النص الأدبي جزءًا من الحوار الإنساني الذي لا ينتهي، والذي يستمر في تشكيل الوعي الفردي والجماعي على مر العصور.